ثرثرة 17: صيف متأخر

 

ما يخطر لي الآن وأنا أكتب هذه الكلمات، هي الجلسات التي كنت أعقدها لكتابة التدوينات في صيف الأعوام السابقة، وتحديدًا صيفي 2019 و2020، حينها خرجت العديد من التدوينات والثرثرات، وكانت فقرة مميزة، تركت ذكريات سعيدة🌸 وكعادتي في الفترة الأخيرة أعود لأكرر: اشتقت للتدوين. وكعادتي حينما لا أعرف كيف أعود حقًا، أكتب ثرثرة جديدة :)

كنت متشوقة كثيرًا لحلول هذا الصيف، خصيصًا وأن العامين الماضيين كانا صعبين ولم أستمتع بصيفهما كما أحب، وإن تخللتهما فترات سعيدة بالطبع، والحمدلله على كل ما مضى. لم أضعَ أي خطط مسبقة، فهذه كانت الفكرة: دون خطط، إلا رؤوس أقلام لأشياء أحب فعلها وأخرى أرجو تقليلها أو وقفها، مع التشديد على فكرة: أريد أن أحظى بالتسلية أكثر.

المفترض أن الصيف يبدأ في حزيران الأحب، لكن أجواء الصيف وطقوسه وحكاياته التي أحلم بها، تأخرت كثيرًا. ففي البداية كان هناك التأخير في نهاية العام الدراسي للطلبة، وتزامنت مع ذلك وعكة صحية، ثم دخلت أيام ذي الحجة، يليها عيد الأضحى المبارك. وهنا لا يسعني أن أقول غير إن أيام ذي الحجة الفضيلة كانت جميلة جدًا، والحمدلله على كرمه وجميل عطائه. لكن كما تعلمون فهي ليست أيام مناسبة للتسلية على أي حال😅، فبذلك تأخر الأمر لبعد عيد الأضحى، وأُضيف لسعادة تلك الأيام الحماس لبدء الصيف حقًا :)

~~~

وما كادت تنقضي إجازة العيد، حتى فُجعنا بوفاة مفاجئة في العائلة، والحمدلله على كل حال، فذهبنا كالعادة إلى قرية الأقارب، واستدعى الأمر بقائي فترة طويلة تقارب الشهر هناك. بالطبع لم تكن كزياراتي المعتادة فأجواء الحزن ومظاهر العزاء طغت على كل شيء، لكن رحمة الله كبيرة وفضله عميم. رحمة الله ولطفه التي تجلت في الصبر والرباط الذي نزل على القلوب فشد من أزرها، وأذاقها السلوان، في اختياراته الأفضل لنا جل في علاه وإن لم ندرك ماهيتها أو حكمتها، في تسخيره العباد لبعضهم، وتأليفه قلوبهم، ليتقاسموا الحزن فيصغر، ويؤنسوا المستوحش فيسكن. وفي رحمته الأكبر بنا أن جعلنا مسلمين، وتوفى الراحلين مسلمين، فاللهم لك الحمد على فضلك، أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، آمين.

ولم أتم اليوم من عودتي إلى المنزل، حتى دخلت جدتي المستشفى، وبعد أيام بسيطة، فارقت روحها حياتنا. جدتي، أطيب من عرفت، وبركة العائلة وطهرها، رحمها الله وأسكنها فسيح جنانه، والحمدلله في الأولى والآخرة. وأعادت هاتان الحادثان ذكرى صيف 2020 حين فقدنا فردين من العائلة خلال فترة متقاربة (كتبت خواطر عن أولاهما في تدوينة سابقة). وهكذا عدت أدراجي لتلك القرية التي لم تفتقد وجودي بعد، لكن هذه المرة بزيارة أقصر، سادتها أجواء الحزن أيضًا، وتخللتها لحظات الحنان ودفء اجتماع العائلة. مع أمل أن تكون الزيارة التالية عنوانها الفرح والأمل.

وعطفًا على آخر تدوينة بعنوان “تخلي” فيبدو أن هذه المواقف جاءت اختبارًا لهذه الصفة. وبالفعل وبعون الله وجدت نفسي أترك الأمور تسير، وأدع الذكريات تغزوني فأسكب الدمع عليها ثم تمضي، لم أتمسك أو أتشبث أو أمارس أيًا من طقوسي المعتادة، وأرجو لاحقًا ألا أفعل، رغم أن للراحلين هذه المرة قرب أشد، ولي معهم ذكريات أكثر، لكن كما قلت سابقًا فما يحتاجونه مني حقًا هو الدعاء، والأعمال الصالحة. أذكروهم في دعواتكم رجاءً.

~~~

في الحقيقة كانت العودة للمنزل في بدايتها أشبه بالخريف المبكر، موجات من الحنين، وانطفاء الرغبة في فعل الأشياء، لكن وبلطف الله لم يدم ذلك طويلًا، واخترت أن أتكيف مع الظرف، فلا أفعل الكثير حقًا. وتعلمون شيئًا؟ لم يكن الأمر بذاك السوء أبدًا، بل بالعكس، ولأول مرة شعرت أنني أتخفف من الأعباء حقيقة، رغم أنني كنت سابقًا آخذ الاستراحات والإجازات، لكنها ليست ككل مرة. ولا يبدو السير مع التيار دون وجهة واضحة أو خطة محددة مربكًا، ربما لا يكون الأفضل على المدى الطويل، لكنه لهذه الفترة على الأقل يبدو مناسبًا :)

ومما زاد في حالة العفوية هذه حلول موجة حر مطولة، وبما أن غرفتي في الصيف ذات حر لا يطاق، فغادرتها تقريبًا، ومضيت كالمشردة بين الغرف، أضف عليها عطلًا أصاب حاسوبي، لكن لا بأس فربما هذا ما أحتاجه الآن فعلًا. وهكذا وجدت نفسي بجانب الواجبات التي لا يخلو منها أي يوم، أستريح، وأفعل ما أحب، وأغرق في سطور كتاب لساعات طويلة، وأكتب لنفسي ومع نفسي فضفضات سعيدة.

ووجدت نفسي أعود لتلك السطور التي كتبتها في بداية الصيف، فأقف أمام تدبير الله، لتحقيقي غالب ما كتبته وإن لم يكن بطريقتي المعتادة، فمثلًا لم يكن لدي أصلًا الوقت أو الذهن لفعل تلك الأمور التي كنت أود إيقافها أو التقليل منها، وبطريقة ما أصبحت مواعيد نومي أفضل، واهتماماتي انصبت على بعض الأمور التي كنت أسعى جاهدة سابقًا أن أجعل لها نصيبًا وافرًا من الاهتمام، وهو غالبًا ما لا يستمر؛ لأنها ليست من أولوياتي. ولم يقتصر ذلك على عاداتي وسلوكياتي بل أيضًا كان لكل ما حدث الأثر الطيب على أفكاري. لنعلم أن كل ما نبذله هي مجرد أسباب، وأن العون والمدد من الله، فهو الذي يدبر الأمور وييسرها وإن بدت السبل –في نظرتنا القاصرة- بعيدة عن ذلك.

وهكذا أستطيع القول إن هذه كانت بداية الصيف الحقيقة، صحيح أنها كانت متأخرة، لكنها حشدت لي من السعادة والسرور النصيب الكافي، ولم يقتصر الأمر على ذلك، فتغلفني طمأنينة وسكينة وادعة، ربما كانت استجابة لدعوات صادقة من الأصدقاء والمحبين. بالطبع تحدث المواقف المزعجة والحزينة، وتمضي أوقات مملة، لكن كلًا منها يأخذه حيزه المناسب من اليوم، ويمضي دون أن يخلف وراءه ذاك الشعور الثقيل. فالحمدلله دائمًا، الحمدلله كثيرًا. أرجو من الله أن يمد في هذه السكينة، وأن يعيدني لها كلما فقدتها، وأسأله أن يرزقني حسن التسليم له، والتوكل عليه، وتفويض أمري له. أسأله تدبير أمري فإني أُسيء التدبير والاختيار، وألا يكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك.

الحمدلله اللطيف الخبير الحكيم، الحمد له تبارك اسمه وتعالى جده، حمدًا كثيرًا كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه. الحمد له على الأفراح والمسرات، وعلى الأوجاع والأحزان، الحمد له على ما أعطى والحمد له على ما أخذ. الحمدلله على نعمة الإسلام والإيمان، والحمد له على لطفه ورحمته. الحمدلله على نعمة العائلة والأقارب وصلة الرحم، على الأصدقاء والخلان والأحباب. الحمدلله الذي يبدل الحزن فرحًا، والضيق فرجًا، والهم سرورًا.

13 فكرة على ”ثرثرة 17: صيف متأخر

  1. Esraa Bsharat

    صدقا الموت يجعلنا نخلع معه نسخه قديمه من انفسنا تحمل فيها ألم وفقد ونعود كأننا أشخاص جدد
    الحمد لله على كل حال

    Liked by 1 person

  2. تنبيه: ثرثرة 17: صيف متأخر – أكاديمية الطالب

أضف تعليق