حديث قلب

StockSnap_SFTZHPQRP3~1

عرفت هذا القلب في صغري قلبًا صغيرًا محبًا، يحب الله فوق كل شيء، ويحب مخلوقاته مما في الأرض والسماء، فيبتسم للقطة، ويلهو مع الزهرة، ويتمايل مع النسيم، ويطارد قمرًا منيرًا في السماء. يعتقد بذاك الخير الموجود في قلوب البشر، وتسعده اختلافاتهم أكثر مما تريبه، ويسره أننا جميعًا خلق الله.

لكن هذا القلب على صغره وحديث عهده بالحياة، كان محاطًا بأسوار من جليد، تبعث البرودة في أنحاء النفس. أسوار تجعل الأمر عصيًا على الآخرين لمعرفته أو حتى الاقتراب منه، وتجعل الأمر عصيًا أكثر عليه لإدراك ما وقع فيه من مشاعر أصلًا، هذا عدا عن أن يحاول ترجمتها إلى مواقف وكلمات.

استمر هذا الأمر لسنوات ليست بالقليلة من حياتي، وليس الأمر أنني لم أحظ حينها بأشخاص حولي، لكن فيما عدا عائلتي فلم أكن أبادر أو يخطر لي حمل أي مشاعر لأي أحد، وأقتلع سريعًا أي بذرة شعور جديد بدأت تنبت فيه، وبالطبع كانت صداقاتي سطحية، محدودة الزمان والمكان.

لم يكن الأمر أنني لا أحمل الحب في قلبي، بل أوقن أنني كنت أحمل منه الكثير. ولم يكن أيضًا في تصوراتي عنه، فقد كانت لدي تلك النظرة الإيجابية للحب، فتجعله من أنبل المشاعر وأطهرها، وما يقوم عليه أمر الدنيا. وكانت -ولا زالت- عندي تلك الفلسفة التي تأبى أن يُختزل الحب في قوالب وصور محددة، وعلاقات معينة. وكنت أجيب من يبكي الحب ويهجوه، أن المشكلة في تصرفات البشر أنفسهم لا في الحب الذي يظلمون. إذن، كانت المشكلة في تلك الأسوار التي لا تترك للحب فسحة أن ينمو بداخلي.

وبعد بعض المعاناة من آثار ذاك البرود، وشيئًا فشيئًا، وبعون الله وتوفيقه، بدأت أسمح لنفسي أن أفتح تلك الأبواب الموصدة في قلبي، وأفسح لنور حب الآخرين أن يتسلل منها وإليها. كانت خطوات كخطوات الطفل الصغير، ترعاها رحمة الله ولطفه. ربما تعثرت هنا وهناك، لكن والحمدلله لم أسقط سقطات كبيرة تجعلني أهرع عائدة لأعاود إغلاق الأبواب وتشييد الأسوار. ومع الزمن والمحاولة، باتت الخطوات أسرع وأكثر ثباتًا، وبالطبع بدأت تلك الأسوار بالتقلص، فهي بالنهاية أسوار من جليد.

لكنني لم أتخلَّ تمامًا عن أصلي الأول، ولا أظن أنني سأفعل. فقد اكتسبت من ذلك الكثير، وحفظني ذاك الحذر –بعد رحمة الله-من الكثير من الألم الذي ربما كنت سأقع فيه. وتعلمت كيف أستغل ذلك لأبني علاقاتي ببطء وهدوء. لا أحب العلاقات السريعة والمندفعة، ولا تلك المشاعر الثائرة المتقدة من أول الطريق، فكثير منها ما تخفت جذوته مع الزمن، وبعد أن ينطفئ حماس الفضول، أو بريق الإعجاب. أحب علاقاتي التي تمضي على مهل، نمد جسور القرب والدفء بيننا بهدوء، محاولين التأكد من ثبات كل قطعة جديدة توضع على الطريق.

تعلمت ألا أجازف في العطاء دون مقابل، وألا أنتقل لمرحلة جديدة في العلاقات دون أن أرى جهد ورغبة الطرف المقابل في الانتقال، وليس الأمر بحساب “وحدة بوحدة” وانتظار المقابل على كل فعل وشعور، وإنما هو مقابل عام، وإن اختلفت طريقة التعبير عنه من شخص لآخر.

يصفني الكثير حتى الذين لا أعرفهم بأنني لطيفة، وأعتقد أنني عمومًا كذلك، لطيفة المسلك والعبارة، لا أبخل بالتحية والشكر والثناء، وأعبر عما يلفتني بإعجاب، لا أتدخل فيما لا يعنيني، وأرفض ما لا يناسبني بلباقة. مهارات أخذت مني وقتًا وجهدًا والكثير من التجربة والخطأ. لكنني أيضًا، لا أقول كلماتي اللطيفة تلك دون أن أعنيها بصدق، ولا أورّط نفسي في إظهار شعور يجاوز ما أدركته في داخلي، وأحذر كثيرًا في انتقاء العبارات والسلوكيات أمام من لديه قابلية للتعلق (كبعض الفئات العمرية الأصغر مثلًا). أعلم أن هذه الأمور ليست سهلة، وكثير من سوء الفهم وارد الحصول، لكنني أحاول وأسال الله السداد والتوفيق.

 يقولون كذلك إنني طيبة، ولن أدعي أنني لست كذلك وأن تحت كل تلك القشرة من اللطافة ترزح خباثة خفية مثلًا😅، بل أعتقد حقًا بهذا الطيب الموجود في قلبي، ليس لجهد مني، بل رحمة من الإله العظيم، فكيف لمن يريد أن يعمر حب الله في قلبه أن يدعه موطنًا للضغائن والأحقاد؟ وليس هذا فقط بل أثق أنه يكمن في داخلي ذاك الشخص الحنون، الذي يحن على المتعب والضعيف والصغير، ويحمل المحبة أينما حلّ، وأقول لصديقاتي إنه يمكنني بسهولة تخيل نفسي كجدة حنونة. أعرف أنني كذلك لأنني بدأت أستمع لما يقوله قلبي، بعيدًا عن كل تلك الحواجز والأصوات التي تقيد حريته، وأعرف أنه يومًا ما بعون الله ستغدو لمساتي ولفتاتي الحانية جزءًا واضحًا في شخصيتي. وبالمقابل تبقى تلك الطيبة والحنو وما شابهها، مغلفة بذاك الحذر الأصيل، يعينني أثناء المسير، فهي ليست طيبة ساذجة، بل منحًا من الرحمن يجعلها في قلوب العباد للعباد.

لا أدري تحديدًا ما الذي دفعني لكتابة هذه التدوينة، ربما رغبة في شرح نفسي في كلمات، أن أخبرك إنك إن قابلتني يومًا، فطاب لك ذاك اللطف لكن شعرت بشيء مريب، فأعلم أنك تقابل هذا القلب، لا، لن يفعل كسيرته الأولى فيصد أمامك الأبواب ويشرع الأسوار، لن يعاملك ببرود وتطفح في نبرته اللامبالاة. بل سيقدم لك شيئًا من الدفء ما يكفي لزائر جديد، ومن يدري فقد يصبح هذا الزائر يومًا حبيبًا قريبًا؟ :)

سعيدة بما وصلت إليه اليوم من القدرة على فتح قلبي أكثر للآخرين، من محاولاتي المستمرة في التعبير عما في قلبي، وإبراز ما أثق أنه جمال مدفون في هذا الروح. ولا زلت محتفظة بأجزاء من عهدي القديم، أجزاء تكفي لتحفظ هذا القلب وتحميه. فقط أتمنى للقادم أن أكون أكثر قدرة على إفصاح قلبي. أن أخبر أمي صراحة أن طبق الطعام لهذا اليوم كان شهيًا، وأعرب لزوجة أخي عن شكري وتقديري مباشرة دون الانتظار أن أختبئ خلف شاشة وإرساله لها في كلمات مكتوبة. أن أحتضن أصدقائي بدفء لا لسبب سوى أنني اشتقت إليهم، أن أضحك معهم حد الدموع، وأبكي بوجودهم حد التعب. ألا أتردد ألف مرة قبل أن أقول “أحبك”، ولا أحاسب نفسي بعد كل قول حميم وأتساءل إن كنت مبالغة في قولي أم لا؟ أن يظهر التعاطف الذي في قلبي أكثر في محياي وعلى جوارحي، وأن ينطلق الحب والفرح من داخلي لما حولي.

5 أفكار على ”حديث قلب

  1. 😭

    في الحقيقة أنا أرى الكثير من ” لطافتك” و ” طيبة” قلبك معي 💕

    هذه التدوينة أبكتني
    فاض الكثير مما في نفسي من عينيّ :”)

    إعجاب

  2. نوار، أبكيتني والله ،، كم لامستني كلماتك لأنني أعيشها الآن، وأحاول وأسعى للوصول لنفس الهدف الذي وصلت إليه، وأنت لطيفة حقًا ولكن باللطف المصاحب للقوة،، لطف مصاحب للوعي والإدراك ،، تعلمين.. منذ أول مرة عرفت فيها تمنيت لو أمتلك مقدرتك على التعبير وإحساسك المرهف القوي، المليء بالصدق..

    يسّر الله لي أن اقرأ مدونتك اليوم، فيها الكثير والكثير من العِبر، ولست أقول هذا مجاملة أو لمجرد الكتابة، بل هي كلمة صدق ربي شاهد عليها،، أدام الله علينا عطاياه وأعاننا على حُسن استخدامها ❤️

    Liked by 1 person

    1. أنا التي سأبكي من جميل كلماتك :’)
      كلامك يعني لي الكثير الكثير والله، وبعض الجمل ستبقى في ذهني.
      جعلنا الله عند حسن الظن

      سعيدة جدًا بوجودك ومرورك وتعليقاتك حنين🌻

      إعجاب

  3. تنبيه: تخلي! – نواريات

أضف تعليق