عن أشياء أحبها

الفترة الماضية كانت فترة مرض طويلة نسبيًا، وغلبتها مشاعر من الحزن والإحباط المصاحبة لجو الخريف المتقلب، والحمدلله دائمًا. لذلك قررت أن أكتب شيئًا في محاولة للدعم والتشجيع وإعادة البهجة، واخترت أن يكون في مدونة عامة لا فقط في مساحة شخصية؛ لأن الحديث للآخرين أحيانًا يعطي أثرًا وبعدًا أكبر. ليست هناك مسودات سابقة لهذه التدوينة فلنر كيف تمضي.

المتجول في هذه المدونة يلاحظ أن عددًا ليس بالقليل من تدويناتها يتناول موضوع تقبل النفس وإظهار حقيقتها للآخرين، والحرص على إبراز وتقدير تلك التفاصيل الصغيرة التي تميز كل إنسان، من صفات وطبائع واهتمامات ومفضلات. وبالطبع بما أنها مدونتي الشخصية فحاولت تطبيق ذلك على نفسي في عدة مناسبات؛ دعمًا لنفسي أولًا، وتشجيعًا للغير لمحاكاة مشابهة، وبالطبع لفت النظر إلى نعم وهبات جميلة، وإن كانت بسيطة، قد يغفل عنها المرء في ظل الحياة المتسارعة.

لم أسعَ يومًا لأكون إنسانة مختلفة، ولا زلت، ففكرة أنك تريد الاختلاف لمجرد الاختلاف مثل رغبتك في التشابه لمجرد التشابه، وفي كليهما يبقى الإنسان رهينًا لما يفعله الآخرون ويفضلونه. لذلك لم يعنيني الاختلاف، لكن كنت أحاول غالبًا أن أكون نفسي، حتى قبل أن أقصد أو أعي هذه الفكرة تحديدًا. وبطبيعة الحال في ظل هذا العالم العولمي المادي الذي يحاول أن يقولب البشر في قوالب معينة، حتى بت ترى نسخًا متكررة كثيرة من البشر، يتشابهون حتى في اختياراتهم في التفاصيل الصغيرة، ظانين أنهم يملكون حرية الاختيار لمجرد أنهم يقررون الشراء من ماركة دون أخرى. في ظل هذا، بات موضوع أن تكون نفسك، فقط نفسك، في حد ذاته اختلافًا! نعم قد يعني الاختلاف التميز، لكنه يأتي بضرائب معه كذلك، فالكثير من اختلافك حتى في خيارات شخصية لا تؤثر في الآخرين، غير مرحبٍ به.

بأي حال إن كانت خياراتي واهتماماتي ومفضلاتي مشابهة للآخرين أم مختلفة المهم أنها تشبهني، وتعبر عني، وتجعلني أشعر أنني نفسي. ويمكن لهذه الأمور أن تتغير من مرور الوقت، ولا بأس بذلك، فنحن لا نريد لها أن تصبح عبارة عن عبء ثقيل يحمله المرء بعد أن كان يومًا شيئًا يسعده.

وكلافتة مهمة وجب التنويه أن هذه الاختيارات هي ما تكون في تلك المساحة الرحبة مما أباحه الله عزوجل من نعم وطيبات، غير متجاوزي حدود الفرائض والمحرمات أو حتى الشبهات، أو ما يتعارض مع الحياء والذوق العام، ولا بإسراف في فضول المباحات.

لم تفلح محاولات أمي العديدة (ومعها خالتي) لجعل أهوائي موافقة لما تحب، أو مما يشبه ما ترى في الفتيات الأخريات من الأقارب والجيران. خيارات معينة متعلقة بالمظهر أو الاهتمامات أو طريقة أداء الأشياء أو حتى موعد استيقاظي. فلم يجعلني ذلك أحب المطبخ أكثر من مكتبي، أو الطبخ أكثر من التنظيم، أو الاستغناء عن جاكيتي المفضل لأنني أرتديه كثيرًا، وغيرها من الأمور. وطبعًا هذا ما جعل لي ألقابًا معينة متعلقة بالصعوبة والعناد! والأمر ببساطة ليس عنادًا، فلست أزدري الخيارات الأخرى بل وأشجع أصحابها وأحب أن يحدثوني عنها، لكن عمليات الإجبار على تغيير السلوكيات والاهتمامات والمفضلات لم تكن دافعًا كافيًا لي، نعم يمكنني أخذ قدر ما من بعض هذه الأمور وأدائه حين حاجتي إليه، أو لأسعد به الآخرين. ويمكنني إدخال بعضها الآخر إلى حيز اهتماماتي ومفضلاتي، لكن حين أجد في نفسي قبولًا لذلك.

إذا ما سألت المعارف من حولي عن الأشياء التي يذكرون نوار بها، فغالبًا سيكون على رأس هذه الإجابات: الشاي، البطيخ، الصيف، دوار الشمس، اللون الأصفر، وطبعًا الدفاتر. أظن أنها بداية طيبة للحديث عما أحب، فالحديث عما أحب من أكثر ما يدخل السرور والبهجة على نفسي، فإذا كنت مهتمًا بذلك فلنتابع سويًا سير هذه التدوينة، وعلى ما يبدو أنها ستطول.

الحيز الأكبر من الأمور التي أحبها يتعلق بالأطعمة والمشروبات، وأذكر حين كانت لدي لوحة معلقة أكتب وأرسم عليها رسمًا صغيرًا للأمور التي أحبها، أن الكثير مما ورد فيها هو ما يندرج تحت هذه الفئة، تتربع على قمتها وبلا منازع الشوكولاتة اللذيذة. عمومًا أنا أفضل المذاقات الحلوة ولا تغريني كثيرًا الموالح والحوامض، فحتى الفواكه أنتظر أن تنضج تمامًا وتصبح حلوة لتناولها، ترافقها الفواكه المجففة والتمر والزبيب وما شابه، وبالطبع العسل. أما ملكة الحلويات فهي “الكنافة” وبكل جدارة.

يمكن ليومي أن يتغير بسبب طبخة ملوخية شهية، أو صينية بامية لذيذة، مصحوبة بخبز ساخن، أحب الخبز والكثير من أنواع الخبز. ورفيق كل يوم حتى في الأوقات التي يصعب على جسدي استقبال أي أطعمة فيه هو اللبن “الزبادي”، أو مخففًا قليلًا ك “الشنينة” العيران. شغفي بهذه المذاقات يجعل إسعادي أمرًا سهلًا، وهو ما يتميز به والدي الذي يحب “إطعام الطعام” أكثر من أي هدية أخرى في العالم، لذلك أشعر بزحام النعم الإلهية حين أتلقى منه أو من إخوتي كل يوم والآخر شيئًا لذيذًا يبهجني. وأشعر بفضل آخر لتواجدي في مكان وفير بمثل هذه النكهات التي تجود بها هذه الأرض.

بقاءً في أجواء الطبيعة، فإن علاقتي بالطبيعة من أرض وسماء وما عليها من كائنات بدأت منذ الصغر، حين كنت أمضي وقتًا طويلًا في حديقة المنزل استكشف. وللآن أشعر بالأنس الكبير في تأمل الأشجار وانحناءات أغصانها، أو الأزهار وألوانها الساحرة، أو في النظر في السماء واتساعها وحبورها والأشكال المختلفة للغيم فيها، ولا داعِ للإطالة في مدح الشمس والقمر اللذان قد سبق وسردت القصص والحكايا معهما. أحب المطر حين ينزل رحمة من السماء فيروي أكثر من الأرض، بل يروي أرواحنا أيضًا، أحب صوته منهمرًا غزيرًا بفضل الله، وأحبه خفيفًا تتلقاه أكف يدي بحب، أما أجمله فذاك الذي يأتي بصحبة أجواء دافئة فيغدو الأمر مهرجانًا من الفرح. أحب البياض الذي تكتسيه الأرض عند هطول الثلج، والألوان التي يعكسها بياضه مبددة حلكة الليل، وصابغة السماء بلون وردي مبهج. ولا أنسى قوس المطر الساحر، الذي يفرح له الصغار والكبار.

أما الحيوانات، فتلك قصة أخرى تحرك شغاف القلب، وكم أحمد الله أن جعل هذه الكائنات البديعة تسكن الأرض معنا وتشاركنا العيش. أحب مراقبة حركاتها وانفعالاتها، الطرق المنوعة في كسب قوتها، أو دفاعها عن نفسها، ولحظات أمومتها الحنون. أحب التأمل في خلقها البديع، في ألوانها وشكل جسدها وما يغطيها، أو في عيونها التي تحكي لي الكثير. أحب معرفة أنواعها ومشاهدة الفيديوهات عنها، فليس غريبًا أن تزدحم حساباتي في بعض المواقع بها، ولا يبخل إخوتي في إرسال أي مقطع لدب مرح، أو كلب ذي فراء، أو شقاوة القطط المعتادة. وبذكر القطط فأنا أكثر من أحب القطط، وكم تسعدني بعض الحركات الغبية من ذكورها، والدلال الزائد من إناثها، واللطف المصحوب بالشفقة لصغارها، أحب القطط وعيونها المضيئة وأقدامها المكتنزة. أحب حينما أقترب من قطة ما فتنظر لي بداية بتوجس ثم يتحول لاطمئنان يجعلها لا تغادر مكانها، بل وتغمض عيونها لتنام بسلام. كذلك أحب الفراشات ورقتها وخفتها وطيرانها الرشيق.

أحب الدوران وكل ما له علاقة به، أحب دوران الصغار والكبار، فرادىً وجماعات، وأراها من أكثر الحركات التي تعبر عن الفرح، حتى حين أسعد أراني في مخيلتي أدور وأدور. أحب الفساتين التي “تنفش” حين دورانها، والأشياء المخصصة للدوران مثل البلابل، وأقوم بتدوير “أي شيء” تقريبًا، لأنني أحب أن أرى كيف يغدو شكله ولونه مع دورانه السريع. وبذكر الدوران أذكر الطيران، الذي أراه شكلًا آخر من تعابير الفرح، لطالما كانت هذه الآلية مثيرة للاهتمام بالنسبة لي، وفي كل مرة أنظر للسماء مراقبة هذه العملية التي يقوم بها الطائر -بإذن الله- بشكل سهل، تعود لجذب اهتمامي، وأتفحص تلك الأجنحة القوية المشرعة. ربما لم يعطَ الإنسان هذه القدرة التي حظي بها الطائر لكن ربما نحاول محاكاتها حين الدوران بأذرع مفتوحة، أو بالتحليق مع أرجوحتي الحبيبة، أو ربما في مدينة الألعاب.

 وبقاءً في أجواء اللعب، فأنا حقيقة أحب اللعب مع الأطفال، ليس لمجرد إشغالهم وتسليتهم بل لأنني أحب ذلك حقًا وأسعد به من قلبي، وأعتقد أن أطفال العائلة لا يدركون فكرة أنني شخص كبير بالغ، ويعتبرون أن اللعب هو شيء أفعله بكل تلقائية مثلهم، بالتالي ليس عليّ أن أتعب أو تنفد طاقتي. ليس فقط اللعب هو ما أحب فعله مع الأطفال، بل أيضًا قضاء الوقت بصحبتهم (وهو ما يعرضني للتوبيخ في الكثير من الحالات)، فيسمعونني حكاياهم، وكيف يقضون أوقاتهم، وتلك الهموم الصغيرة التي تشغلهم، نمارس بعض النشاطات سويًا، أو نشاهد مادة لطيفة. وأفضل في بعض التجمعات قضاء الوقت مع الأطفال عوضًا عن شكاوى وتحليلات الكبار.

في مقابل الأطفال لدينا كبار السن، والذين يمتازون بصفات لا تجدها في باقي الناس، فالكبار (غير صعبي المزاج على الأقل) فيهم من التروي والسكينة والصبر ما يوافق رغبتي في البطء والهدوء. تبهرني تلك المعاني الإيمانية لإيمانهم البسيط لكن القوي، والتي تظهر في ردود أفعالهم وكلامهم، كما يقولون: “تفاقيد المولى رحمة”، و”اللي كاتبه الله بصير”، فأستند بقلبي المضطرب أحيانًا إلى حسن توكلهم على الله ورضاهم عن أقداره. أشعر أن هم من يفهمون القصة كاملة وإن لم يعلموا تفاصيل الأحداث، وأن هذا الإيمان هو ما أطمح إليه. أما دعواتهم فتلك قصة أخرى، فيا لحظ من كان اسمه مقرونًا بدعوات الأجداد والجدات! وأكثر دعوة تلمسني حينما يقولون: “الله يحنن عليكِ”، آمين. وكما هو الحال مع الأطفال فالكثير من الوقت يكون فقط بالاستماع إليهم أو مراقبتهم، وأحيانًا سماع قصصهم من الأقارب والأصدقاء، أو مما يمر خلال الشبكة، قصص صغيرة تثير بهجة مختلفة. أحب الكبار، وكلما أصبح الشخص أكبر في العمر أجده أصبح أقرب إلى قلبي، حفظهم الله ومتعهم بالصحة والعافية.

أحب من الناس من أكون في حضوره مرتاحة آمنة، مفسحًا لي المجال لأكون على طبيعتي، دون تحفظ أو تكلف، ومحاولة إخراج عفويتي التي لا أزال أعمل عليها. لا يشغلني أمامه دقة اختيار الألفاظ والعبارات، ولا الثياب والشكليات. لا أشعر بالحرج أن أعبر أمامه عن تعبي أو سوء مزاجي، ولا يستفزني في إعماله آليات التحليل والتقييم لمواقفي وإسقاط نظرياته الخاصة عليّ بإطلاق. يتفهم تحفظي وتكتمي في بعض الأحيان، لا يتدخل فيما لا يعنيه، ويتجنب الأسئلة والتلميحات التي يعرف أنها تمس مناطق لا تسعدني.

أحب الأشخاص الحقيقيين، الذين يمثلون الإنسان في حالاته البشرية الطبيعية، أولئك الذين حين يفرحون تخرج ضحكاتهم وتعبيراتهم من قلوبهم، وحين يبكون يبكي من حولهم من صدق شعورهم. لا مشكلة لديهم أن يظهروا منكسرين أو منهزمين أحيانًا (وليس شرطًا أمام كل الناس). هم يحاولون ويسعون لكنهم يعلمون أنهم أحيانًا لن يصلوا، وأحيانًا سيقودهم ضعفهم البشري من هوى أو خوف أو حتى كسل إلى أخطاء ودروب شائكة، ولا بأس، فهم لا يشغلهم أن يكونوا دائمًا أصحاب “الإجابات الصحيحة والمثالية” بل “الإجابات الحقيقية”. هؤلاء الأشخاص الذين يحيطوننا بالأمان والحقيقية هم من ننمو حقًا بصحبتهم.

أحب أصدقائي، وأعتقد أنهم من أغلى عطايا الله لي، ولا أدري حقًا كيف كانت ستكون حياتي لولا وجودهم! الوقت برفقة أصدقائي مختلف، ولا يهم لو كنا نتشارك فرحًا أو نتقاسم همًا. هم من يجعلونني أرى نفسي شخصًا أفضل، ومن أعرف نفسي بحضورهم أكثر. هم الأنس وقت الوحشة، والسند حين الشدة، والتصفيق عند الإنجاز. أحب أصدقائي لأنهم يذكرونني دومًا بالله، وحين أرى منهم تلك المواقف الظاهرة والخفية التي تكشف عن قلوب تتقي الله وإن قصرت. أصدقائي مواطن آمنة، وأيادٍ ممدودة للخير.

أحب أن أقضي الوقت برفقة إخوتي. ونظرًا لشخصياتهم المختلفة، فتتنوع الأحاديث والنشاطات والفعاليات مع كل منهم. ويُحدث هذا الاختلاف أحيانًا نقاشات عقيمة وحوارات مختلطة تثير الضحك (حسنًا والغضب أحيانًا أخرى). أحب أن نخرج في مشاوير مشتركة، أو نقرر إنجاز مشروع معين معًا، وربما تقتصر مشاركتي فيه على الدعم المعنوي فقط. أن ندخل في حديث عن ذكريات طفولتهم، أو نمارس بعض الألعاب اللوحية، أو نجتمع لنشاهد مباراة جديدة. أعلم أنهم يمتلكون طرقهم غير المباشرة للتعبير عن حبهم، وأن تلك الألقاب والحركات التي تثير استغراب الآخرين هي طريقتنا الخاصة لإظهار المحبة والامتنان.

منذ الصغر ونحن تعقد في بيتنا سجالات الشطرنج، وأوراق اللعب “الشدة” بمختلف عناوينها، والألعاب اللوحية كال “مونوبولي”، أو تلك التي تحتاج إلى سرعة بديهة، أو التي تختبر المعلومات الثقافية. وأذكر ابتكارات إخوتي في صنع أدوات اللعب أو اختراع ألعاب جديدة، أو إقامة أحداث وفعاليات منزلية. كنت حينها صغيرة بما يجعلني غالبًا في موقع المتفرج، ورغم وجود هذه الذكريات في ذهني لكنها مرت سريعًا، بشكل يجعلها تمر كطيف عذب بعيد من فترة لأخرى. حاليًا نمارس هذه الأنشطة لكن على فترات طويلة متباعدة عندما يتاح المجال لذلك.

ربما لا أكون ممن يفضلون الرياضات الحركية، لكنني أعوض ذلك في الألعاب الذهنية. لطالما كنت الشخص الذي يبحث في الجريدة عن صفحة “التسالي” لأحل الكلمات المتقاطعة، وكلمة السر، والسودوكو، وغيرها، ولا أزال تقريبًا أفعل هذا حتى الآن بالاستعانة بتطبيقات الهاتف. أحب الألعاب المتعلقة بالكلمات، أو المعلومات، أو الترتيب. أما بالنسبة للألعاب الإلكترونية باختلاف أنواعها، فبصراحة يوجد داخلي إنسان لو ترك على راحته ربما لأصبح مدمن ألعاب رقمية، لكن الحمدلله الذي هداني لترويضه، فأسد حاجته بلعبة بناء الطوب، أو أحد ألعاب مجموعة Solitaire، وربما أعطيته الفرصة لتجربة لعبة جديدة خلال فترة قصيرة.

وبالحديث عن الكلمات، فإن لي ارتباطًا وثيقًا باللغة، وبالأنشطة المتعلقة بها بطبيعة الحال. يأسرني موضوع علاقة اللغة بالعقل وتكوين شخصياتنا، وكيف أننا من خلال اللغة ننطق أكثر من مجرد الحروف والكلمات، ونعبر بها عن هوياتنا وشخصياتنا ودقيق خصالنا. نعم ربما تكون بعض اللغات أجمل من الأخرى، لكن لا شيء يضاهي جمال اللغة العربية! هذه اللغة تسحرني، وتوقفني كل مرة مذهولة من دقة وصفها، وتمايز ألفاظها، وانسيابها في كل حدث وموقف، حتى لتظن أنها خلقت له وحده. بعربيتنا الأصيلة نحكي إيماننا الراسخ، وكرمنا المعهود، وشجاعتنا الفذة.

نعم أفخر بعروبتي وأمقت كل من يتبرأ منها ازدراء لها. ويؤسفني بالطبع حال اللغة العربية الذي يتراجع مع الزمن، وكيف تتهجن تدريجيًا، لا بألفاظ معجمة فقط، بل حتى في تراكيب الجمل وبنائها بما يحاكي منظومات أخرى. لذلك أحب الكلمات القديمة التي كان يتناقلها الأجداد، ويصعب على نفسي اندثارها مع الأجيال، وكلما مر موقف قلنا به كلمة منها سألني أبي: يا ترى هذه الكلمة ما أصلها؟ والحقيقة أنني مع البحث وفي غالب المرات أجد أصلها كلمة عربية فصيحة تعبر عن المعنى المقصود بدقة.

تلك الكلمات تحمل معها قصصًا جديدة، عن نشاطات وأحداث استدعت ظهورها على ألسنة تلك الأجيال. احتفظ بكل قصة في قلبي قبل ذاكرتي، وأستمد منها الكثير من العبر. قصص قد تبدو للبعض مجرد ترهات عن عادات بالية وتخلف جاهل، غافلين عن تفاصيل نفتقدها كثيرًا في عالم اليوم. اعتدت أن أسمع عن حكايا الشعوب، وفي كل مرة أغوص بها في تراث منطقة ما أعود بدهشة جديدة. معرفة أصول الأشياء وتاريخها توسع المدارك، وتجعلني لا أحكم بسطحية على مظاهرهم المختلفة أو التي لا تعجبني. نعم قد لا يوافق بعضها صواب العقل والشرع، لكنه على الأقل يجعل مساحات التقبل والاختلاف أكبر، ويجعلك تنظر لضيق معايير مجتمعك بشفقة، فخارج تلك الحدود عوالم أخرى وأخرى. بعضها مشوق وممتع، وآخر بشع ومقرف، وبعضها فقط مختلف. والتراث العربي مرافقًا للغته الأصيلة، يحكي أجمل الحكايا وأنبلها، وإن غاب التوفيق عن بعضها، تلك الحكايا التي نقلت في الكتب، أو تواترًا على الشفاه، أو حفظت في القصائد والأهازيج. أو ربما عبر قطعة ملابس أو شيء من أدوات المنزل. لكنها تحتاج نظرة منصفة غير منهزمة لتُفهم بشكل أفضل.

لدي فلسفة شائكة مع موضوع الفنون التعبيرية، ليس لمنعها وكتمها، وإنما في كيفيتها وحدودها وضوابطها، ومدى موافقتها للشرع والعقل والأخلاق والفطرة السوية، وفي مدى كثافتها وانتشارها، وهل كل تعبير يسمى فنًا؟ وهل كل فن ينبغي أن ينشر؟ بكل حال ليست هذه التدوينة عن فلسفاتي، لكنني شخصيًا أحب ما أسميه ب “الفنون الحقيقية”، وأبعدني عما هو حداثي وسريالي وتجريدي، وعن الفنون الغريبة التي تشمئز منها النفس الطبيعية، وعن كل ما يخدش الحياء باسم “الأدب والفن”. أرني لوحات لمناظر حاولت أن تحاكي جمال الطبيعة الباهر-سبحان الخالق-، أو تصور دفء البيوت وتفاصيل الأشياء فيها. فنون تروي لحظات السعادة الخالصة أو الحزن العميق، وأثواب تعكس الهوية قبل أن تكون مجرد ثياب. نعم لست من جماعة الفنون عمومًا، لكن أعتقد أنني أعرف كيف أتذوق الأشياء الجميلة والحقيقية.

عمومًا أنا شخص هادئ، ويلفتني ويجذبني كل ما يكتسيه الهدوء، من أشخاص وأماكن وألوان، وأحب تلك اللحظات التي يغمر فيها الهدوء روحي وما حولي. لكنني بالمقابل لا أحب الهدوء على إطلاقه، لا يريحني أن أدرس أو أعمل في مكان هادئ تمامًا، بل بالحقيقة أجد هذا مستفزًا. أحب الأشخاص الهادئين، لكنني أيضًا أحب أولئك الذين يعاكسون طبعي، الذين يتحدثون كثيرًا، أو يميلون للحركة والمغامرة. أحب الاحتفال، والمشاركة طويلًا وكثيرًا في أوقات الفرح في المناسبات والأحداث. ويسعدني الذين يحتفلون بصحبتي حتى دون مناسبة، لعلمهم أن هذا يسرني.

بذكر الاحتفالات أذكر الأضواء، هناك شيء ساحر في النور يجعلني أنجذب له سريعًا، ربما هذا أحد أسباب حبي الكبير للشمس المشرقة. أعمدة الإنارة في الشوارع، أضواء البيوت من بعيد، الأحبال الممتدة للزينة في المناسبات، والأشعة المخترقة لزجاج النوافذ. ويا لذلك المشهد حين تنظر بالأفق إلى أنوار المدينة المتلألئة خاصة في ليلة صيفية. لذلك أحب كل الكلمات المرتبطة بالنور، من الومضة، والوهج، والبريق، وسواها. وعندما أردت اختيار جملة تعريفية لمدونتي، وضعت أمامي مرادفات النور كاختيارات محتملة، حتى اخترت “الألق”، لتكون في النهاية: “ألق وطيب”.

أمور أخرى تخطر لي لكن ربما يصعب عليّ ذكرها. على أي حال يمكنكم إيجاد المزيد في تدوينات سابقة. وأتقدم بالشكر الجزيل لكل أحبتي الذين يعرفون ما أحب ويحرصون على مشاركتي إياه. في أطعمة أبي اللذيذة، وهدايا إخوتي العجيبة والبسيطة، في كل نداء لي لرؤية لون السماء المختلف، أو طائر جديد، أو نبتة بهية. في مشغولات أصدقائي اليدوية المصنوعة بحب ودفء حقيقي، في الصور الكثيرة لكل تلك الأمور التي أحبها، أو اللحظات التي نتشارك بها نشاطًا يسعدني. وفي كل مرة أخطر بها بذهن أحدهم لأنه صادف شيئًا أحبه أو يشبهني. شكرًا لكم، أنتم ما أحب حقًا❤

ولكل من مر هنا، شكرًا لتخصيصك هذا الوقت لقراءة ما أكتب. أحب أن أكتب أكثر خلال الفترة القادمة فأرجو أن تشجعني على ذلك :)

6 أفكار على ”عن أشياء أحبها

  1. أعتذر لتأخري في قراءتها حد اليوم.. وأعترف 🙈.. تحتاج للقراءة مجدداً لأكتب تعليقاً يليق بعفويتها وجمالها وحبي لها.
    كم أُسْعدُ بكتاباتك هذه.. رضي الله عنك.

    Liked by 1 person

  2. تنبيه: ساحة رقص – LAVENDER

أضف تعليق