إلى نوار الصغيرة

e9b951ee78fef6bd3801754b6a48caba

لا أدري بما أحدثك يا صغيرة؛ ففي صدري تحتشد الدموع أكثر من الكلمات، وكلما خطر على ذهني أمر جديد أخبرك به، سبقت حروفَه العبرات. وهل للمرء أن يختصر أحاديث السنوات في سطور؟ أو أن يطفئ شوق لقاء طال انتظاره سنوات بساعات؟

أنا لم أهجركِ يا صغيرة، ولم أبتعد عنكِ لأنني لا أحبكِ، لكنني كنت دون أن أدري أحاول أن أدفنكِ داخلي مع كل تلك الأشياء والمواقف التي ارتبطت بكِ، ظننت ألا طائل يرجى من عودتي إليكِ، وأن أيًا ما مر عليكِ فهو مر وانتهى، وما يهمني فقط هي نوار التي أعرف الآن، غير مدركة أنني الآن لست سوى امتداد لكِ، وأن روحي هي روحكِ، وأنني لن أعرفني حقًا أني لم أعرفكِ.

هل كنتِ تنتظرين عودتي يومًا؟ هل عندما أمر بذكرك في قصة عابرة أو صورة نادرة تتطلع عيونك بلهفة راجية أن يكون هذا لقاءنا المنتظر؟ لكن أيًا كانت حاجتك للقائي فضولًا أو شوقًا، فأنا أخبركِ أن حاجتي للقائك اليوم أكبر، وأنني يا صغيرة ممتنة أن رحمني الإله ومنّ علي بلقياكِ، والحمد له أن اللقاء لم يتأخر سنوات أو عقودًا أكثر.

سامحيني، فلم تكن رحلتي للوصول إليكِ سهلة، كان يقف بين لقاء قلبي قلبكِ الكثير، المشاغل اليومية لهذه الحياة المتسارعة، والمخاوف المتزايدة من مستقبل مجهول، وكل ما أحشد به قلبي غثًا كان أم حسنًا. وعندما بدأت في تخفيف سرعتي في الجري في دروب الحياة، واخترت أن أستقطع بعض الوقت لنزهة صغيرة، لم أكن أعلم أن النزهة ستتحول إلى رحلة ثم إلى مخيم طويل، كان أقصى ما أريده أن أستريح قليلًا وأعالج بعض العقبات خلال المسير، وشيئًا فشيئًا قادتني خطواتي إليكِ. صدقيني لم يكن الأمر في مخططي أصلًا، إلا أن قلبي كان يعرف الطريق، كان يرسل لي بالإشارات المتتابعة علني أفهم الرسالة فألتفت لكِ، وها قد جئتك، كما أنا بندوبي وعيوبي، ولم أحاول أن أجمل لكِ نفسي، وحينها لم أجدكِ فقط، بل وجدتك تنتظرينني.

الآن حين أنظر إليكِ أمامي أراكِ على حقيقتك، لا كما صُوّر لي عنكِ، لا أراكِ كما كانوا يفعلون، طفلة هادئة، مطيعة، مجتهدة، تبدو بشكل ما وكأنها غريبة عن هذا العالم، حسنًا أنتِ كل ذلك، لكنني لن أختزلكِ بهذه الأوصاف فقط، فأنا أستطيع أن أرى أبعد وأكبر من ذلك. أستطيع أن أتأمل عينيك الصغيرتين، اللاتي تلمعان حين الفرح، وتصغران أكثر حين تضحكين، وابتسامتكِ العذبة التي تخرج على استحياء. أرى فضولك المختلف، وتجاربكِ الهادئة، ومشاغبتك التي كانت تنتهي عادة دون أن يدري بها أحد. أستشعر خوفكِ من الليل والظلام، ومن القصص المريبة التي كان يرويها إخوتك (سامحهم الله)، وعادتكِ الباقية بأخذكِ وقتًا طويلًا لتستطيعي أن تنامي. أبصر حبكِ اللامشروط لكل الكائنات، وتعلقكِ الطفولي بزهرة أو حيوان أو دمية.

أراكِ تحاولين مرارًا وتكرارًا رصف الحروف على الورق لتكوين الكلمات والجمل، أو نظمها في أغنية طفولية لا معنىً لها سوى في مخيلتكِ. أرى أصدقاءك الخيالين المخلصين، ودبك المحشو الذي لا يفارق سريركِ. أراكِ كما أنتِ جميلة ومبدعة.

ليس ذنبكِ إن لم يهتموا بمعرفة ماذا يدور في هذا القلب الصغير، وذاك الرأس الذي لا يهدأ، لو لم يكتشفوا مواهبكِ، ولم يلقوا بالًا كبيرًا لأفكاركِ، واعتبروا كل ذلك من عبث الأطفال الجانبي والذي يُنسى مع الأيام. إن قدروا ملاحظة أخطائك أهم من ملاحظة جمالك، وإن قصروا نظرتهم لكِ على خلق حميد أو علامة دراسية تامة. لكن ها أنا عدت الآن، لتخبريني بكل ذاك وأكثر، دون ضوابط أو شروط، دون استخفاف بفكرة، أو زجر لموهبة، أو تعنيف على خطأ. سأسمعكِ بكل حب واهتمام، حب كريم فياض، لا مشروط ولا ممنوع.

وأعلم كذلك أنك ستسمعينني، وسيبدأ هذا الدماغ بتشكيل الصور للحكايا التي أرويها لكِ عنك، ولن أحتاج كثيرًا للشرح بل سأعتمد على ذكائكِ كما أنتِ. سأخبركِ أنك أصبحتِ هذه الإنسانة الرقيقة الدافئة، لا زلتِ لديك مخاوفكِ طبعًا، ولا زلتِ لا تجيدين الكثير، لكنكِ أنتِ أنتِ، رغم كل تلك القوى حولنا التي تحاول تشويه الفرد وقولبته، لكنكِ بقيتِ أنتِ، ذات قلبٍ كبير ويدٍ ممدودة للخير.

أدركِ أنك الآن، وفي هذا السن الصغير، غير مهتمة بأن يحبكِ أحد خارج نطاق عائلتكِ الصغيرة، لا تكترثين أن تلعبي كالأطفال، أو تنشئي الصداقات، أو تشاركي الآخرين قصصكِ وإبداعاتك، كما ليس سهلًا عليكِ أن تدعي أحدًا يقترب ليبصر ما في هذا القلب الصغير. لكن رغم ذلك سيكون دومًا حولكِ من يحبونكِ، يحبونك رغم كل أسواركِ وحواجزكِ، لأن نورك يُبصَر حتى من بعيد، وعطاؤك يصل لمن لا تعرفين، ولأنكِ لطفية وعطوفة ومحبة بشكل أكثر من أن يتم تجاهله. سيكونون هناك معكِ وإن خسرتِ بعضهم لأنك لم تستطيعي أن تقدمي لهم حبًا متبادلًا، لكن سيكونون هناك بانتظاركِ أن تذيبي بعض الجليد، وأن تبوحي ببعض ما فيكِ.

لا تحزني لأنكِ لا تجيدين مكانًا تنتمين إليه بكلكِ، أو شخصًا تكونين معه كما نفسكِ، لا تحزني من الخذلان المتكرر لتطلعكِ الزائد بأنكِ وجدتِ ذاك الكيان المنشود، ثم تعودين إلى الانكماش على نفسكِ. لا تحزني فستدركين أنه لم يكن مكانًا واحدًا بل هي أماكن، ولم يكن شخصًا واحدًا بل أشخاص كثيرون. قلوب كثيرة ستفتح لكِ أبوابها لتسكنيها، وآذان عديدة ستسمع أنينكِ وبكاءك، وأرواح طاهرة كريمة ستشارككِ فرحكِ وسعادتك. أماكن مختلفة ستحمل عبيركِ عندما مررتِ بها، وستبقي فيك ذكريات منها.

كلا لستِ كما تعتقدين عن نفسكِ، كائن أتى بالخطأ على هذه الأرض، وأن مصيره أن يكون على هامش الحياة، يأتي سريعًا ويرحل سريعًا بخفة ودون إحداث أي ضجة أو أخطاء، مع التمني بأن تكوني شجرة أو طيرًا أو أي تلك الكائنات التي تحبينها. فإنك يا عزيزتي جئتِ بتقدير رب العالمين، العلي القدير، الذي خلق كل شيء بقدر، سبحانه من لا يفوته شيء في السماوات والأرض. جعلكِ من خلقه، بل واختار لكِ أن تكوني من أكرم مخلوقاته، إنسانًا خلق أباه بيديه ونفخ فيه من روحه، إنسانًا تًسخر له الكائنات وتستغفر له الملائكة. أتظنين بعد هذا أنكِ تهونين؟ فكيف إذا ما كنت تعبدينه وحده لا شريك له، وتسألينه أن يجعلك ممن يحبهم.

يا صغيرتي، وإن اختلف الكثير بيني وبينك، فإن حب الله في قلبكِ لم يتغير، حتى لو اختلفت الكلمات التي نناجيه بها، والمطالب التي نذكرها في دعواتنا، لو أصبحتِ تفهمين أمورًا عنه لم يكن يستوعبها عقلكِ، لكنكِ لعنايته ورحمته وفضله وكرمه، ومع تعثر وقيام، وبُعدٍ وعودة، ونسيان وذكرى، لا زلتِ تحبينه كما أنتِ الآن، لا زال ملجأكِ في كل حين، وحاضرًا في قلبكِ في غالب اللحظات، لا زلتِ تودعينه أمانيكِ وأسراركِ، وترجينه أن يكتب لكِ لقائه.

وإنك يا حلوتي، وفي إنجاز كبير تفخرين به، لا زلتِ صديقة نفسكِ، تحبينها وتدعمينها، تحاولين جاهدة فهمها وإسعادها، تعنين بها وتقدرين تفاصيلها الصغيرة. وإن نشبت بينكما بعض خلافات أحيانًا، أو قسوتِ عليها في أخرى، أو وقفت حاجزًا بينكما بعض الأفكار التي تشوش رؤية الأمور بوضوح، لكنكما صديقتان حميمتان، تسعدين بقضاء الوقت معها، وتمارسين طقوسًا خاصة برفقتها. وإنني أرجو يا حبيبتي لي ولكِ أن يعينني الإله وأستطيع أن أخرج للآخرين الأكثر مني.

سأنهي سطوري هذه هنا، لكن لقاءنا هذا قطعًا لن يكون الأخير، بل هو فقط البداية، فلا زلت أتوق لاسترجاع الكثير عنكِ حتى تلك التفاصيل الخافتة. ولا زلتُ أريد أن أحدثكِ عن الكثير مما مر بكِ، وعن اهتماماتكِ وهمومكِ الحالية، عن مفضلاتك الجديدة، وعن خصالك الطفولية التي لم تتغير.

كوني متأكدة أنني سأرهف سمعي أكثر حتى أصلكِ إذا ما ناديتني، وسأعود لك دومًا دون نداء، محملة بأزهار ياسمين تشبه تلك التي تجود بها الشجرة الماكثة -آنذاك- في حديقة المنزل، ولونها بلون طفولتكِ، أو قطع الشوكلاتة التي تذيب قلبكِ.

ومن المهم أن تعلمي أنكِ بتِ صاحبة مدونة إلكترونية صغيرة تملكين كل ما بها من حروف وسطور، وأنني اخترت أن أكتب بها لكِ؛ لأنني أردت لأكبر قدر من الناس أن يعلموا كم أحبِكِ❤.

صديقتكِ الكبيرة.

13 فكرة على ”إلى نوار الصغيرة

  1. سحر

    أتخيل هذه النوار الصغيرة وأبتسم لها، فتبادلني الابتسامة بحذر .. ورغبة مضمرة بخوض مغامرة جديدة.
    هنيئاً لكما هذه الرفقة جعلها الله عامرة بحبّه ورضاه 💛

    Liked by 1 person

  2. Esraa Bsharat

    مااجمل كلامك عن نفسك في طفولة وكأنكما شخصيتين منفردة عن بعضها
    مدونه لطيفه جدا
    سُررت بالتعرف إلى نوار الصغيرة 😊

    Liked by 1 person

  3. كلماتك كلحن ❤️ استمتعت بقراءة الرسالة و شعرت بدفئها يغمرني و شعرت و كأنها تحتضنني فما بال نوار الصغير ؟
    دمت بخير ✨

    Liked by 1 person

  4. أسماء

    السلام عليكم ورحمة الله،
    لم أقرأ من قبل جمالا كهذا .. عندما قرأت العنوانَ ظننت شيئا فإذا بالنصوص تتوالى على غير ما ظننت بل وعلى غير ما قرأت من قبل .. يرى المرء بين هذه الصورة شخصا رقيقا جميل النفس صافي الفكر ذا طفولة عذبة وحاضر كذلك .. أقرأ عن هدوءك ولطفك لأتذكر طفولتي حين كنت ضرّابة لا تكف عن الكلام والحركة في الأرجاء، فسبحان من خلق هذا الخلق المتنوع الذي لاا نحصي ضروبه وأشكاله.
    هذه أول كتاباتك التي أقرؤها وقد أحببت نقاوتها وصفاءها… جعلتني أرى المدونة مقهى صغيرا نجتمع فيه جميعا معك .. لكننا لن نشرب قهوة ولا شايا .. وإنما : نشعّ أضواء الفكر والرأي ، وتنفذ فينا إشراقات خواطرك..
    هذا .. وسلام الله عليك يا نوار

    Liked by 1 person

    1. وعليكم السلام ورحمة الله
      أخجلتني بجميل كلماتك🙈
      الله يسعدها “الضرابة”، عسى أن نسمع المزيد منها الآن😂
      حسنًا أوافق على فكرة المقهى لكنني لن أتخلى عن الشاي😋
      والبركات عليك أسماء💗

      إعجاب

أضف تعليق