قبل أيام انتهى الحبر من قلمي، وفي تلك اللحظات فكرت أنه بهذا ستنتهي مهمته التي صنع لأجلها، ثم تساءلت هل يا ترى كان هذا القلم سعيدًا في حياته القصيرة التي عاشها معي؟ هل شعر بحسن حظه أم سوئه لاختياري إياه ليكون ملكي؟ وعندما يجتمع مع أكوام القمامة ويجد أقلامًا أخرى فهل سيحدثهم بحكايا سعيدة أم تعيسة؟
بالنسبة لي، فهو نوعي المفضل من الأقلام، وبهذا القلم تحديدًا كتبت غالب ما خططته على أوراق خلال الشهور السابقة، من مسودات التدوينات، وبعض الخواطر، ودروس العلم، دونت به الجرد السنوي لعام 2019، وخططت بصحبته أهداف العام الجديد، وآخر ما كتبته به كان رسالة طويلة دافئة إلى نفسي، أما آخر كلمات كتبها قبل أن يعلن استسلامه فكانت: ” أنتِ جميلة كما أنتِ، وأحبك كما أنت“.
شكرًا قلمي العزيز، عسى أن يكون بعدك خير خلف.
في فترة ما كنت أعاني كثيرًا من آلام القولون العصبي، وفي تلك الفترة وجد أبي علاجًا طبيعيًا بسيطًا يمكنه المساهمة في التخفيف من حدة هذه المشكلة، وهو عبارة عن منقوع بذور الشومر، وبذور اليانسون. استلم أبي –حفظه الله – مشكورًا مهمة إعداد هذا المشروب كل يوم، دون أن ينسى تحليته بالعسل الذي أحب. بكل الأحوال والحمدلله تلقيت علاجات مناسبة بعد ذلك ولم تعد تلك الآلام تشتد إلا ما ندر، لكن رغم ذلك استمررت في تناول هذا المشروب في كل يوم بعد صلاة الفجر.
وفي أحد الأيام لاحظت أن طعمًا جديدًا قد أضيف له وأصبح ألذ، فسألت أبي إن كان قد وضع الليمون فيه؟ فأخبرني أنه لم يفعل، ثم تذكر أنه وجد بعضًا بقايا البابونج والليمون التي أعددت بها لأخي علاجًا للزكام (واضح أننا عائلة تحب العلاجات الطبيعية😁) فأضافها للاستفادة منها، فخرج لدينا هذا الطعم المميز، ثم أصبحت هذه التركيبة هي المشروب الجديد. وبعد ذلك على ما يبدو أستمر أبي في إضافة أعشاب أخرى كالميرمية والمليسة لهذه التشكيلة. سردها لي يومًا في صحبة أمي، فابتسمت وقالت أن هذا يذكرها بفعل أحد الجدات.
ومضيا يقولان لي كيف أنها كان يأتيها المرء عليلًا فتخرج للأرض فتأخذ من هذه العشبة وتلك ثم تعدها وتسقيها له، فيبرأ بإذن الله، لم تكن هذه الجدة طبيبة، أو حتى تعلم الخواص العلاجية الكامنة في كل عشبة، لكنها كانت “على البركة”.
أحب الأجداد والجدات وحكاويهم العبقة، ودعواتهم الطيبة، والكثير مما يتعلق بهم، ولك أن تتخيل مقدار سعادتي حين أخبرني أبي يومًا أن طبقًا معينًا من الطعام أعددته يشابه ما كانت تعده بعض الجدات :’). وأذكر ذاك اليوم في المستشفى الذي جلست به بجوار جدة عجوز لطيفة، بدأت تروي لي قصصًا وأخبارًا، وكيف أنها تحن لبيتها الصغير ولا تريد أن تبقى لدى أولادها رغم كل ما يوفرونه لها، تريد أن تعود إلى غرفتها وأشيائها التي تعرف أين اعتادت وضعها، وانا أسمع مبتسمة كل هذه الأحاديث التي تطابق أحاديث جداتي.
أحب عندما يزورنا الأقارب، فنتطرق بالحديث لذكريات الماضي، عن ذكريات وأيام قريتنا الصغيرة، عن رجالها ونسائها، وعظمة أبنائها، عن عاداتها المتأصلة، وحوادث مهمة مرت بها، عن الأسر الكبيرة التي يتجاوز بها عدد الأشقاء والشقيقات الدزينة، وعن أسمائهم الغريبة التي لا تعرف لها معنىً سوى أنها تعود جميعها لنفس الجذر اللغوي. عن الزراعة والفلاحة، وأيام الحصاد والبيدر، عن أيام دون كهرباء، عن الصفوف الدراسية الصغيرة، والمسافات الطويلة التي كان يجب عليهم قطعها للوصول لمدارسهم.
وبالطبع كثيرًا ما يتخلل الحديث عبارات مثل “الله يرحمه”، فهم وإن غابوا فلا تزال قصصهم تعيش داخلنا، تؤنسا وتداعب مشاعرنا وحتى أحيانًا تذرف دموع الضحك من عيوننا. غفر الله لأمواتنا أجمعين، وجمعنا معهم في عليين.
وربما كانت هذه الحكايا عن أيام دراسة أبي ومن في سنه في الخارج، وتلك الصدمة الثقافية التي أصيبوا بها كأول مرة يخرجون بها للإقامة طويلًا خارج حدود قراهم، عن المواقف الطريفة والمضحكة، والصعوبات والمشاق التي كابدوها، عن عادات تخلوا عنها وأخرى اكتسبوها. والأجمل أن الكثير منه موثق بالصور، تستطيع أن تستشف منه “الموضات” العجيبة التي كانت سائدة في تلك الأوقات، والتي يستخدمها أخي كحجة كلما استهجنت أمي قصة شعره أو لباسه الجديد.
يعلم أبي مدى حبي لسماع هذه الحكايا فيرويها لي باستمرار، وإذا ما حصل على صورة أو وثيقة مرتبطة بها يطلعني عليها. وأتذكر يومًا أننا جلسنا على مائدة الإفطار فامتدت جلستنا لوقت طويل بعدها بصحبة كأس الشاي وصوت أبي مسترسلًا بحديث الذكريات، روى لي فيها حوادث أضحكتني وأخرى آلمتني، ترى الدموع بسهولة تترقرق في عينه لدى حديثه عن الراحلين وخاصة أبيه –رحمه الله-، وتدرك لماذا يأبى زيارة بعض الأماكن في القرية التي عانى بها أكثر من غيرها، رغم أنها تغيرت كثيرًا واختلفت معالمها. عرضت عليه يومًا أن يوثق هذه الذكريات، فأتتني إجابته أنه فكر بذلك، لكن يبدو أنه لم يأخذ عرضي هذا على محمل الجد حقًا😅 إلا أني حقًا أحب أن أفعل ذلك يومًا ما إن شاء الله.
توصيات
توصية اليوم بودكاست قريب على قلبي، رغم أنه توقف فقط بعد 5 حلقات، باسم “هلا يبه” وفكرته حوار بين أب وابنه، حيث تدور الأحاديث عن الفروقات بين الأجيال ونظرة كل منهما للأمور، وبعض نصائح الأب لابنه، وربما كانت الأحاديث أحيانًا تدور حول المشاريع والأعمال، لكن أيضًا تجد بها الحكمة.
صفحة البودكاست على الساوند كلاود
ويمكنكم إيجاده على تطبيقات البودكاست.
ثرثرة دافئة كالعادة :’)
لفتني تعاملك مع قلمك و أظنك لا تملكين غيره بشكل أساسي للكتابة لذا امتلك هذه القيمة 😜♥️
و أنا أحب حكايا و الأجداد و أحزن بسماعها بالوقت ذاته ، لشعور الفقد في طياتها ..
إعجابLiked by 1 person
كلماتك وتعليقاتك تفضي على ثرثراتي جمالًا مميزًا💛
دمتِ بحب ودفء وبرفقة من تحبين💕
إعجابإعجاب
أنتم في نعمة من الله، أرض الشام غنية بتنوعها النباتي، من أعشاب طبيّة ومن الفواكه. نسأل الله أن يديمها عليكم
إعجابLiked by 1 person
الحمدلله على نعمه وفضله :)
ودمتم بكل خير.
شكرًا لمرورك ومشاركتك✨✨
إعجابإعجاب
تدوينة كلها حب ودفء العائلة وذكريات مع ابيك حفظه الله
هالتدوينة خفيفة عالقلب لأنها قريبة من قلوبنا.
اعجبتني قصة القلم😊
إعجابLiked by 1 person
أدركِ أنك شعوري المسطور في التدوينات العائلية يصل قلبكِ دومًا!
حفظ الله قلبك الودود💛
إعجابإعجاب